حالات الإصابة بفيروس كورونا في ارتفاع من جديد في المملكة المتحدة. غير أن حكومة رئيس الوزراء بوريس جونسون المحافظة، التي يهيمن عليها أيديولوجيون يمينيون يعلون من شأن مفهوم الحرية الفردية ويقدّمونها على المصلحة العامة، ترفض مرة أخرى فرض التدابير اللازمة، وهو رفض كلّف البلاد عدداً كبيراً من الأرواح في موجات «كوفيد-19» السابقة.
الأسبوع الماضي، نحو مئة عضو من حزب المحافظين في البرلمان صوّتوا ضد مخطط حكومي جد متواضع ينص على ارتداء الكمامات والإدلاء بشهادات التلقيح في بعض الأماكن. وبينما أخذت المستشفيات تمتلئ بمرضى «كوفيد-19» مرة أخرى، يتحدث هؤلاء عن تقليد بريطاني قديم هو الحرية الشخصية. وفي هذا الصدد، قال عضو البرلمان المحافظ ماركوس فيش: «إننا لسنا مجتمع (أرني أوراقك رجاءً)»، مضيفاً: «فهذه ليست ألمانيا النازية». 
وبالنظر إلى هذا الخطاب المناوئ للحكومة، فقد لا يخطر ببالك أن أن وسائل الإعلام البريطانية، اليمينية في أغلبيتها الساحقة، تمثّل جوقة الخلفية لـ«الحرية» ورفض قيود «كوفيد-19». بل إنها تزعَّمت احتفالات المحافظين بـ«يوم الحرية» في يوليو الماضي. 
الاحتفالات كانت جنونية مثلما كانت مفتقرةً للنضج. ومؤخراً، خلال الأسبوع الأخيرة من عام 2021، تابع العالمُ من جديد، وبذهول كبير، متحور أوميكرون وهو يتفشى بسرعة والتذرع بـ«المسؤولية الشخصية» و«الاختيار الفردي» لإرجاء اتخاذ تدابير احترازية في المملكة المتحدة. 
السعي للمصلحة العامة ليس غريباً عن بريطانيا بكل تأكيد، وتجسيده الحالي النظامُ الصحي الوطني «إن إتش إس» الذي كان محلّ إشادة واسعة خلال الأسابيع الأولى من الجائحة. غير أنه إذا كان المعجبون المحافظون بوينستون تشرشل يطيب لهم أن يشيروا إلى تحدّيه لألمانيا النازية في الوقت الذي يشدّدون فيه على حقهم في عدم ارتداء الكمامة، فإنه ليس هناك ما يشير إلى أن محبّي الحرية المحافظين كانوا يبقون على الأضواء مفتوحة ليلاً خلال فترة إطفاء الأنوار الإجبارية التي فرضتها حكومة تشرشل في عام 1940.
هذه النزعة المحافظة المعاصرة المدافعة عن الحريات الفردية تعود جذورها إلى المنظّر الأيديولوجي الأميركي آين راند أكثر منها إلى أي تقليد بريطاني متعلق بالحرية. ويُعد الازدراء الحالي للصالح الجماعي إلى حد كبير تركة الثورة التي أطلقها رونالد ريغان ومارغريت تاتشر في الثمانينيات. إذ من المعروف أن تاتشر كانت تشكك في وجود «المجتمع»، بينما قال ريغان إن «الكلمات الأكثر إخافة هي: «إنني من الحكومة وقد جئت من أجل المساعدة». 
والشيء الغريب هو أن المعارك التي أطلقها أنصار أفكار وسياسات ريغان وتاتشر ضد معدلات الضرائب، والصناعة الحمائية، وامتياز النقابات.. تم كسبها قبل زمن طويل. بل إن أنصار الحريات الفردية في الولايات المتحدة تمكنوا من تشويه سمعة التدخل الحكومي الكبير في الرعاية الصحية. وعليه، فما الذي يجعل أنصار الفردانية الأنجلو-أميركيين متصلبين وفاقدين للمرونة على هذا النحو الخطير، بل ومتعصبين لحد تدمير الذات، اليوم؟ حدثان وقعا مؤخراً أفسدا المشهد بالنسبة لهم. الأول هو صعود الصين، الذي أثبت من جديد –بعد النجاحات السابقة لليابان وبلدان شرق آسيا– أن تدخل الحكومة أساسي للنجاح الوطني في التعليم والرعاية الصحية، إضافة إلى النمو الصناعي والابتكار التكنولوجي. 
والآخر، ولعله الحدث الأكثر إزعاجاً في تاريخ الولايات المتحدة، هو النزعة المتزايدة لأشخاص صامتين تاريخياً وكثيراً ما عانوا من التهميش لتأكيد الذات: النساء، والسكان المهاجرون من غير البيض، والأقليات الجنسية. 
وخلال قرنين من التوسع والهيمنة الغربيين، تمتّعت أقليةٌ من الرجال البيض بحرية نسبية لفعل وقول ما تريد، من دون مراعاة لحقوق الآخرين وحساسياتهم. وعلى نحو غير مفاجئ، يمقت الكثير منهم مطالبة الأشخاص الذين لم يكن لهم صوت في السابق بإعادة النظر في بعض المواقف القديمة والتخلي عنها، وهي تتراوح بين النرجسي والأناني والوحشي. مطالبةٌ كثيراً ما يُستخف بها وعلى نحو مجحف باعتبارها «صحوة مجتمعية». ذلك أن أولئك الذين ما زالوا يتمسكون بالسلطة السياسية والرأسمال الثقافي يفضّلون تأجيج الصراع والانقسام على الاعتراف بأن مجتمعاتهم باتت متنوعة على نحو لا رجعة فيه، وأنها ينبغي أن تعترف بكرامة الأشخاص الذين كانوا يتعرضون للازدراء والحطّ من قدرهم بشكل ممنهج من قبل الهرمية النوعية والعرقية التي أقامها الرجال البيض. 
إنهم بطبيعة الحال يخافون ويكرهون الصحوة المجتمعية التي تؤكد الحقائق الراسخة: إن الثروة والسلطة الوحيدة لأقلية ذكورية في الغرب، إنما بُنيت على الإمبريالية، وليس على أي تفوق فطري طبيعي. 
وبدلا من ذلك، وأمام أصغر التحديات لسلطتهم الأخلاقية والفكرية، اختار الكثير من الذكور الذين كانوا تاريخياً يتمتعون بامتيازات الاستمرار على النهج نفسه وتكريسه، متهمين النشطاء والمثقفين بالترويج لـ«ثقافة الإلغاء» ومحاولة إعادة تأويل التاريخ.
وقد خاضت حكومة جونسون حربَها على الصحوة المجتمعية بحماس لافت طيلة الجائحة. وكان اليمينيون الذين يتحدثون عن الحرية أعلى صوتاً من أي وقت مضى في أوروبا وأميركا. وأضحت معركتُهم ضد قيود «كوفيد-19» جزءاً من حربهم الأكبر ضد «الصواب السياسي»، ليس أقل من صراع وجودي، وشيئاً لا يقل استعجالاً عن الصراع الوجودي للكثيرين اليوم ضد المرض الشديد والموت المبكر الذي يسبّبه كوفيد-19. 
العواقب بالنسبة لبقية الناس كثيرة جداً. فبينما يقوم المحافظون المحبون للحرية بمحاولتهم الأخيرة، تفيد الأدلة المتزايدة من أماكن أخرى بأن العمل المنسق من قبل الحكومات والتضامن بين المواطنين هو ما سيحتوي الوباء. 
والواقع أن الدرس المستخلَص من المملكة المتحدة، بؤرة دلتا والآن أوميكرون، وموطن حكومة محافظ، هو أن الثقة في طبقة حاكمة يمينية، في المجتمعات التي تقسّمها الحروبُ الثقافية بشكل مقصود، ستتقلص على نحو لا مناص منه وأن الوباء هو الذي سيتمتع بالحرية الحقيقية. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»